السبت، 6 ديسمبر 2014

الغربة

الغربة
بقلم علاء دياب




التقيت به في الغربة ، شيخٌ تجاوز الستين من عمره ، اشتعل رأسه شيبًا ، وأكلت السنون من جسمه النحيل ، تجاذبنا أطراف الحديث .
اسمي .......... ، مصري الجنسية ، قدمتُ إلى هنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا ، كنت وقتها شابًا يافعًا تحدوني الآمال والطموحات ، نشأت في أسرة فقيرة ، ورغم ذلك تعلمت حتى تخرجت من الجامعة  ، ولكني لم أجد في بلدي عملا يتناسب مع طموحاتي ويعوضني سنوات الفقر العجاف .
اخترت الغربة والسفر ، رزقني الله بعمل مناسب كان فاتحة خير عليَّ وعلى أسرتي الفقيرة  ، كنت أعيش على الكفاف حتى أوفر المال ، ساعدت أخواتي البنات في زواجهن ، ثم قررت الزواج كأي شاب وصل إلى الثلاثين من عمره  ، في إحدى الإجازات طلبت من أمي - رحمها الله - أن تبحث لي عن بنت الحلال ، وبالفعل بشرتني أمي أنها قد اختارت لي عروسًا طيبة من بيت طيب ، فحمدت الله على ذلك ، وتمت الخطبة في غضون أيام .
ثم سافرت من جديد ، وفي العام التالي تم الزواج خلال الإجازة السنوية التي كانت لا تتجاوز أربعين يومًا ، قضيت مع زوجتي أيامًا معدودات ،ثم حملت حقيبتي وسافرت .
بعد شهر أو شهرين من سفري بشروني في رسالة أن زوجتي حامل ، كم كانت سعادتي بهذا الخبر الذي نزل على قلبي كأنه كوب ماء مثلج في يوم شديد الحرارة !
أصبحت وأمسيت أحصي الأيام والليالي التي سوف يصل فيها ابني أو ابنتي إلى الدنيا ، وفي يوم وصلتني البشارة بأن الله قد رزقني بولد ، يا الله ! كم كانت فرحتي ! وكم كان حزني !
كنت أتمنى أن أشاهد ابني عندما يصل إلى هذه الدنيا ، أسمع بكاءه ، آخذه في أحضاني ، أقبله ، أقوم بالآذان في أذنه اليمنى ، ثم أقيم الصلاة في أذنه اليسرى كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في هذه اللحظة أدركت مدى قسوة الغربة ، ومدى قسوة الزمن ، ولكني لا أستطيع العودة فالآن أصبحت زوجًا ثم أبًا ، وأصبحتُ مسئولا أمام الله عن هذه العائلة الصغيرة .
أصبح كل تفكيري في العمل ، وفي أسرتي الصغيرة ، كنت أنتظر إجازتي بفارغ الصبر ، لأحمل حقيبتي وأعود إلى وطني في إجازة قصيرة كل عام .
عدت بعد عام إلى مصر ، كانت فرحتي عارمة وأنا أرى ابني الصغير الذي لم يتجاوز عمره شهرين أو ثلاثة ، ضممته إلى صدري ، قبل وجنتيه .
قضيت إجازتي مع زوجتي وابني وأهلي ، لم أشعر إلا وقد مر الوقت كمرور الريح ، وإذ  بي أحمل حقيبتي من جديد متجهًا إلى المطار لأعود إلى عملي .
لم أستطع استقدام أسرتي إلى هنا ، لأن راتبي لا يكفي إيجار سكن عائلي مناسب ، وظل الحال على هذا المنوال ، أعود إلى مصر كل عام لأقضي إجازتي هناك التي لا تتجاوز شهرا أو أربعين يوما كل عام  .
وخلال سبعة أعوام كان الله قد رزقني بولدين وفتاة ، كنت أراهم كل عام فقط ، وأمهم هي من تقوم بتربيتهم والسهر عليهم .
لم أبخل على أولادي يوما بأي شيء ، فقد كنت أوفر لهم كل ما يطلبونه ، كنت أعوضهم عن سنوات الحرمان والفقر التي عشت فيها وأنا صغير .
ولكن مع مرور السنوات السنة تلو الأخرى ، وزيادة الأعباء والالتزامات ، لم أستطع العودة إلى مصر ، فهناك لن أجد عملا مناسبًا ، ولن أستطيع أن أوفر لأولادي نفس المستوى الذي تعودوا عليه .
تخرج أولادي جميعهم من الجامعة ، تزوجت ابنتي والتي تخرجت من كلية العلاج الطبيعي بطبيب شاب ، وقمت بتجهيزها بأفخر المستلزمات ، ثم تزوج ابني الأكبر في شقته التي بنيتها لها ويعمل الآن مدرسا في مصر  ، أما ابني الصغير فهو قد تخرج من كلية الهندسة ويعمل في إحدى الشركات بمصر .
........................ ؟ !
تسألني لماذا لا أعود إلى مصر ؟
لأنني لا أشعر بوجودي في الحياة ، لقد ضيعت حياتي هنا في الغربة ، ولم أكن بالنسبة لأولادي إلا بنكًا يمنحهم المال كل شهر  ، تخيل خلال ثلاثين عاما قضيت مع أولادي أربعين شهرا فقط بمعنى أنني لم أقضِ معهم سوى ثلاث سنوات ونصف تقريبا ..
فقدت في الغربة أبوتي ، فقدت مشاعري ، فقدت كل شيء .
ماتت أمي وأنا في الغربة ، وكذلك مات أبي والكثير من أصدقائي وأقاربي ، كنت كلما مات أحدهم أصبِّر نفسي فأقول : سأعتبر أنهم على قيد الحياة وأنني في الغربة لا أراهم .
والآن عندما أعود إلى مصر أشعر بالغربة هناك ، فالذين أحبوني بصدق قد ماتوا وتركوا الحياة ، أما زوجتي وأولادي فالعلاقة بيني وبينهم لا تقوم على الحب ولا المودة ولا الرحمة  ، إنما أساسها المال فقط  .
بني : لا تفعل مثلي ، فمال الدنيا لن يعوضك عن الحب .
ثم تركني وانصرف بعد أن تناول كوبا من الشاي واختفى بين الطرقات ولم أره مرة ثانية  .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

سلامٌ إليكِ

سلامٌ إليكِ                         شعر : علاء دياب سلامٌ إليكِ في كلِّ حيــــن فَأَنْتِ الحقيقةُ لو تُدركيــن وأنتِ ...